ظهرت قوة هذه الضلالة في زمن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وكانت محنة على الإمام أحمد وعلى أهل السنة .
يقول المصنف: "وظهر قولهم في أثناء خلافة المأمون حتى امتحن أئمة الإسلام، ودعوهم إلى الموافقة لهم على ذلك". عندما تولى المأمون بن هارون الرشيد الخلافة، وكان المأمون يحب الاطلاع على هذه الثقافات وعلى تلك العلوم، فعظّم وقرّب أولئك الذين لديهم علم بها، وكتب إلى ملوك الروم يريد منهم الحصول على هذه الكتب، وأنشأ دار الحكمة -وكما قلنا: الحكمة عندهم الفلسفة- والمقصود منها أن تترجم هذه العلوم، ولذلك لما ذهبت رسله إلى ملك قبرص أو غيرها من بلاد الروم وبعد أن وصلت إليه الرسالة قام هذا الملك الرومي النصراني وجمع قومه وقال: قد جاءني كتاب من ملك المسلمين يطلب فيه هذه الكتب، فماذا ترون؟ فقال أكثرهم: لا نعطيه أبداً. هذه كتبنا، يعني الذين عندهم حس وطني واعتزاز بالتراث الوطني، قالوا: كيف نعطيهم كتبنا؟ ما نعطيهم أبداً، فقام أحدهم وكان في غاية الدهاء والذكاء فقال: أيها الملك! أرسلها إليهم، فوالله ما دخلت دين قوم إلا أفسدته، فأرسلها لتفسد دين المسلمين بها.
فحمل الرسل تلك الكتب، وأخذ المترجمون يشتغلون بها، وكان منهم عبد الله بن المقفع المجوسي الذي يدعي الأدب، وكان يخفي المجوسية ويظهر الإسلام، وغيره ممن كانوا معه على هذه الضلالة، فكل من تولى ترجمة هذه الكتب أو القراءة فيها كان من أولئك، وهو على شاكلتهم، وبعضهم كان منظماً لأغراض خبيثة يخطط لها أعداء الإسلام، وبعضهم كان مستخدماً ومستعملاً لذلك، وبذلك ظهرت الحكمة حتى قيل: إن المأمون كان يجلس فيأتي عن يمينه المجوس وعن يساره اليهود أو النصارى وبعض المتكلمين، ويقول: تناظروا، فيتناظرون في الأديان وفي الآراء، وهو يجادل معهم ويناقش.
ومن هنا اجتنبه علماء المسلمين وذموه ولاموه وعابوه، وكان الفرس -بالـذات؛ لأن أمه منهم- حريصين على أن يتولى الخلافة، ومكنوا له ضد أخيه الأمين حتى توطدت له الأمور، ثم أخذوا ينشرون هذه الضلالات وهذه البدع، ومن ذلك القول بخلق القران، ونفي الكلام عن الله تبارك وتعالى، وعظمت المحنة واشتدت على علماء الإسلام، وأكثرهم أو كثير منهم استسلموا وأذعنوا ووافقوا، وثبت الله تبارك وتعالى الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه، وكان صموده -رحمه الله- يضرب به المثل، والذي شبه بثبات أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه في فتنة الردة، ثم كان بعد ذلك المعتصم ؛ لأن الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه وأرضاه لما ثبت وصمد حمل إلى المأمون، وكان المأمون على الثغر في طرسوس، فدعا الإمام أحمد الله أن لا يريه المأمون، وفي أثناء الطريق وصل الخبر إلى الحملة بأن المأمون قد مات، فأعيد الإمام أحمد إلى بغداد حيث كان المعتصم قد تولى الخلافة، وهو الذي ضرب الإمام أحمد من الخلفاء، ثم شاء الله سبحانه وتعالى بلطفه أن جاء المتوكل، فكانت الكرة لـأهل السنة على أهل البدعة، وأظهر الله تبارك وتعالى الإمام أحمد وأهل السنة ونصرهم، ونكل المتوكل بأهل البدعة وسجنهم، وقيد من كان منهم على قيد الحياة وعاقبهم، فانتقم الله تبارك وتعالى منهم جميعاً.
يقول رحمه الله: [وأصل هذا مأخوذ عن المشركين والصابئة، وهم ينكرون أن يكون إبراهيم خليلاً وموسى كليماً]، والصابئة هم عبدة الكواكب، وهم من بقايا أمة إبراهيم عليه السلام الذين بعث فيهم، فـالصابئة يعلمون من دينهم أن نبيهم ورسولهم هو خليل الرحمن، ومع ذلك أنكروا أن يكون خليلاً، وكذلك الذين أخذوا هذه المقالة من فلاسفة اليهود أنكروا أن يكون نبيهم موسى كليم الرحمن، ولذلك فالقول بإنكار الخلة وإنكار المحبة، مأخوذ عن هؤلاء الفلاسفة من المشركين والصابئين ونحوهم، ثم أخذها الجعد كما بينا، وهذا معنى قوله رحمه الله: [وأصل هذا مأخوذ عن المشركين والصابئة، وهم ينكرون أن يكون إبراهيم خليلاً وموسى كليماً] فقوله (وهم) يشمل المشركين والصابئين، وكذلك الجهمية الذين اتبعوهم في ذلك، قال: [لأن الخلة هي كمال المحبة المستغرقة للمحب كما قيل:
قد تخلّلت مسلك الروح مني            ولذا سمي الخليل خليلاً]
ثم شرع رحمه الله في بيان أن محبة الله تعالى وخلته ليست كمحبة المخلوقين ولا كخلتهم، فإثباتها لله تعالى ليس كإثبات أي صفة من صفات المخلوقين، فما يظنونه من أن إثبات الصفات لله تمثيل أو تشبيه مردود؛ لأن ذلك لا يقتضيه ولا يلزمه كما يزعمون.